أرشيف

الربيع العربي ثأرٌ مشروع من أصنام الطغيان العالمي؟ ـ مطاع صفدي *

من غير المستبعد أن تدخل « الثورة » نفق التَسَعْمُر الجديد وهي تحقق التحرّر أو تدّعيه. أبرع ما تفتّق عنه مخيال الغرب العنكبوتي أنه بدلاً من دخول المعركة غير المضمونة النتائج ضد الثورة، فإنه يمكنه أن يضع جاهزيته في خدمة وسائلها، ولكن ضداً على أهدافها، المؤجّلة بين معركة وأخرى.

 

التَسَعْمُر لا يريد أن يتجلّى كدعوة من الداخل المأزوم ليأتي الخارج بالعلاج العاجل، بقدر ما يتلبّس المتحرّر نفسه، كأنه يخترع سلوك المعجزة، في حين أنه يتقمّص عدوه الحقيقي عن طيب خاطر، كأنهما أصبحا معاً في جبهة حلفاء ضد أعداء الداخل، بمعنى أن عدو الداخل قد تفوَّق بشراسته المباشرة على عدو الخارج الذي أصبح بالإمكان الاستفادة من قوته ونفوذه العالمي مرحلياً.

 

«
ثماني سُفرَاء لكبراء الغرب حضروا بالجُمْلة مجلس التعزية بالشاب الشهيد » غياث مطر، الإشارة السياسية الدبلوماسية لا تخلو من رموز التضامن الإنساني، بحيث تتضاعف جرميّة النظام القاتل إلى مستوى إدانة عالمية تُتيح تحريك القانون الدولي للعقوبة القصوى المترتبة على اقتراف النظام لجُرْم الإبادة الجماعية ضد الإنسانية. فالثوار المحتفلون بديمومة الإنتفاضة السورية لستة أشهر دامية مهولة، من حقّهم أن يطالبوا أرباب المجتمع الدولي بترجمة تضامنهم الأخلاقي إلى ما يعادله من تفعيل قانوني. على الأقل. ما يحدث في سورية تجاوز حدود الصراع السياسي بين سلطة ومعارضة، تحوَّلت ساحاتُ مُدُنٍ وأريافٍ إلى ما يُشْبه جبهات حروب. هنالك جيش احتلال كأنه أجنبي، يغزو ويقتل ويحرق ويدمّر كل ما هو مدني أهلي، اجتماعي قائم ملْءَ جغرافيةٍ أمست خارجةً عن نطاقِه، مناظر الجنود المتنقّلة، الرافعة أصابعها بإشارات النصر، تدخل تخرج من الشوارع والأحياء، كأنهم غُزاة أجانب حقاً. نسألهم عن معاركهم البطولية، عمن انتصروا عليه.. على رجال ونساء وأطفال، هنيئاً لنظام يحقّق كل يوم انتصارات عسكرية على شعبه.. لكن السؤال: هل انهزم الشعب حقاً..!

 

ما لا تَعيه شُرْذُمَة السلطة هو استحالة عودة التعايش بين القاتل والمقتول. فالأول تتلبّسه الجريمة، وأما الثاني المقتول فإنه لا ولن يموت. وعندئذٍ فالمقتول الحيّ سيرُدّ الموت إلى قاتله.

 

هذه الحلقة لم يغلقها التاريخ على فساد إلا نادراً؛ مادامت تكرّر نتائجها لعين أسبابها، فالشرذمة المتسلّطة لن تكون استثناء، لكنها لن تكف عن شن حروبها ضد الجميع. عدوُّها يصمد يتعاظم، وهي تتضاءل وتنحدر كتلتها إلى مجرّد بضع ذرّات بشرية مغلقة على ذواتها، متضادة مع أندادها. ذلك أن المجرمين هم أقلّ الأقلّيات في أي مجتمع، كيف لهم أن يظلّوا هم الغالبين إلى ما لا نهاية.

 

«
ولقد كان من سوء المآل للنظام الأسدي منذ بدايته، أنه كان مضطراً لاستنفاد كل صيغ الكلّيات المستعارة من شعارات النهضة، موظفاً إياها في ستر انحرافه المحتوم كامتداد لمشروع مُسَرْطِن لخلايا النهضة العربية من داخل اغشيتها الجماهيرية. وكانت البداية منذ انقلاب 8 آذار (1963)، حيثما شَرَعَ الانقلابيون قي تأسيس وتنمية صراع الثورة والثورة المضادة، على مستوى السلطة، طيلةَ التحولات القطرية والإقليمية التي غطّت عقد الستينيات. وقد شكّلت عناوين مهولة للانقلاب الأعظم الذي عرفه تاريخ النهضة الاستقلالية لما بعد زراعة إسرائيل (1948)؛ فمن سقوط التجربة الأولى للوحدة إلى تكرار هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل وأمريكا (1967)، كان انقلاب 8 آذار يتطور إلى عكس هدفه الأصلي المعلن، وهو إعادة وحدة مصر وسورية؛ فالفئات العسكرية وشبْه المدنية التي تآلفت وراء شعار عودة دولة » الجمهورية العربية المتحدة ، اختزلها انقلاب الثامن من آذار، دخلت في حرب تصفيات سياسية وأمنية، إلى أن استطاعت مجموعة ضبّاط فئوية، مدعية لقيادة حزب البعث، من إحكام سيطرة ميدانية وإدارية على مراكز قيادات الجيش السوري.. فتمَّت لها الحاكمية الأُحادية، بينما انتهى الأمر بمروحةٍ متنوعةٍ من فصائل وأحزاب وشخصيات مستقلة، كانت لها أدوارها القومية والشعبية، إلى التبعثر ما بين السجون والمنافي وهوامش الحياة العامة.

 

العاصمتان دمشق والقاهرة حملتا معاً أعباء الولادات العسيرة لمشروع نهضة الاستقلال القومي على أساس إنجاز وحماية استقلال قطريهما وطنياً سلمياً ومقاوماً لردّات الاستعمار وأداته إسرائيل. لكن سقوط الوحدة، وما تبعه من إحباط استعادتها، وتثبيت سيرورة هذا الإحباط مع تحويل انقلاب آذار إلى ديكتاتورية المجموعة العسكرية الأصغر. لكنها القابضة على قوة المدفع والدبابة وحدِها، شكّل ذلك الانكسار محورَ القوة الوحدوية ما بين القاهرة ودمشق، فَصَل واقعياً ما بين فكيْ الكماشة العربية، التي كانت تطبق، خلال الوحدة على عنق إسرائيل ما بين شمال القارة العربية وجنوبها. هكذا تحققت الهزيمة السياسية للمقاومة العربية الموحّدة، كمقدمة ضرورية للهزيمة العسكرية الساحقة (1967).

 

«
صار ينبغي، بعد هذا المنعطف الأنطولوجي في كينونة التاريخ العربي المعاصر، أن نستبدل مصطلح » الثورة المضادة « بـ » النهضة المضادة « . إذ أصبحت النهضة هي المستهدفة والممنوعة في وقتٍ واحد، وليست هي السياسة وحدها، كما كان الأمر سابقاً في عصر القومية الوحدوية الصاعدة عقب التحرّر الاستقلالي مدفوعاً بالإعداد الانتقامي والثأري من استلاب فلسطين إسرائيلياً أمريكياً. فقد وَقَعَت عدّة انقلابات متزامنة تقريباً، ما بعد الهزيمة، إدّعت جميعها أنها ستشرع من جديد بإعداد الردّ على نتائجها الكارثية. في حين أنها قلبت مسيرة الحركة القومية من هدف التحرير إلى مخطط الحَجْر على الشعوب، ومصادرة السياسة كلّياً من يد الجماهير، لحصرها في قمة السلطة وأعوانها. وكان ادّعاء » التنمية بديلاً عن مسؤولية الصراع التاريخي. فقد حلَّت الإيديولوجيا محل الاندفاعات الوجدانية العفوية للجماهير، وراء بداهات الخلاص العام الذي قاد حركاتها منذ أيام الاستعمار الاحتلالي الغربي. حَدَثَ إذن نوعٌ من الاعتقال (الأمني) للعقل الجماهيري وممارساته المباشرة. كان ذلك استباقاً إحباطياً لمولد الديمقراطية. وذلك لم يحدث كتثبيت للخارطة الانفصالية بين الأقطار أفقياً فحسب في المجال الإقليمي والقومي، بل وقع تثبيت وترسيخ الانفصال رأسيّاً بين أنظمة الحكم ومجتمعاتها.

 

هزيمة السابع والستين أنهت عصر الدفع الجماهيري، وبدأ عصر التأطير الإيديولوجي الهابط فوق رؤوس الجماهير، بهدف تنميط أفكارها وأفعالها. كان من شأن مفاعيل هذه الهزيمة تشكيل النكبة الثانية. فالأولى (1948 ) زرعت إسرائيل، والثانية وضعت حدّاً لمشروع إزالتها عسكرياً على الأقل.

 

بعد الهزيمتيْن صار على الحقبة الإيديولوجية أن تقلب محور الاستراتيجية التاريخية للنهضة، من خط التوجه خارجياً ضد عودة الاستعمار تحت صيغة الاستيطان السكاني الصهيوني لخاصرة المشرق العربي، تقْلُبه إلى الداخل القطري، حيثما ينغلق القطر على ذاته، منشغلاً بتنميط صراع رأسيْ بين الدولة والمجتمع، متلبّساً حِلَلَ الصيغ المؤدلجة، فقد لعبت سورية والعراق دور القاطرتين المتنافستين، لنموذج الدولة المؤدلجة الذي ساد معظمَ بلاد العرب طيلة الثلث الأخير للقرن الماضي، مع امتداده إلى العشرية الأولى من القرن الحالي.. وربما إلى ما بعدها. ما يعنيه هذا النموذج هو أن يعيش الجميع، من سلطة ومجتمع، عالمَ الواقع مُضاعفاً دائماً بعالم الوهم، تكون له القدرة والغَلَبَة على طمس معالم الأول وتهميش حقائقه الفاصلة، فالاستبداد لم يولد هكذا صدفةً، ليعيش عقوداً متواصلة دونما اعتراض. كانت الأدلجة مالكة دائماً لمحرّضات ودوافع التطوُّع الذاتي للأفراد، والنُخب خاصةً، في المشاركة وانتاج وترويج أكاذيب السلطة نفسها، ما دامت شعارات النهضة محتفظة ببقايا رصيدها المعنوي في وجدان الجماعات الفاعلة.

 

من سلطة الشعار إلى سلطة الشخص، لم تكن مسافة الانتقال بينهما واضحة. ولم تتكشف فداحة النقلة الخطرة إلا بعد فوات الأوان، وذلك عندما أوغل الشخص في انتهاك حرمة الشعار، كلِ شعار احترمته الأمة ذات يوم، فجعْله (الشخص) أرخص من أتفه أية مصلحة لسلطاته. فلقد استنفدت حقبة الأدلجة المديدة كنْزَ النبالة الأخلاقية، والعراقة التاريخية، الذي تتمتع به كل نهضة إنسانية، جديرة برفع اسم الحرية فوق انجازاتها. فكم أساء الطغاة العرب إلى أعظم ما انتجته إنسانية العرب بعد موات القرون السوداء، من نهضة فريدة، كان لها أن تجعل من أربعمئة مليون عربي اليوم، أسياداً أحراراً، مشاركين بقيةَ الشعوب في مناضلة أسباب الطغيان العالمي. لكن يمكن القول كذلك في مناسبة الذكرى العاشرة لإسقاط برجيْ نيويورك، لعلّ هذا الحدث الرهيب أراد أن يكون ثأراً من الطغيان الإمبراطوري، باسم مظلومي البشر جميعاً في زمن الذروة العليا لجبروت الرأسمالية المتوحشة. لكن الثأر الحقيقي الذي هو من استحقاق الظلم العربي، أصبح من أعظم بشائر الربيع النهضوي المعاصر والراهن.

 

إنه يتكفل بإقامة المحاكمة العالمية الممنوعة للطغيان الكوني، كان ولا يزال متجلّياً في حرمان قارة العرب والإسلام من حريتها، قُرابةَ قرنٍ كامل من أروع عصرٍ إنساني في إنجازاته وفظاعاته معاً. إنها المحكمة القادرة وحدها على إنتاج ثلاثية المقاضاة دفعة واحدة: من الشهادة والدفاع والإدانة.

 

لعلّ الربيع العربي يهدم آخر أعمدة الطغيان العالمي وأشدّها عسفاً وقتلاً لحقوق الإنسان. بعدَه ربما سيولد طقسٌ ربيعي ذو صفة كونية، ستكون له مهمة اجتثاث جذور الطغيان من مواطنه الأصلية..

«
مفكر عربي مقيم في باريس

المصدر: القدس العرب?

زر الذهاب إلى الأعلى